المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما يؤخذ من سورة الفاتحة من فوائد وأحكام (3)


نزف القلم
30-03-2021, 11:38 PM
ما يؤخذ من سورة الفاتحة من فوائد وأحكام 3
48 - أن طريق الحق واحد؛ ولهذا ذُكر بالإفراد، وعُرِّف في الموضعين: الأول بأل، والثاني بالإضافة؛ قال تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 6، 7]؛ أي الطريق المعهود المعروف.
بخلاف طرق الباطل، فهي كثيرة متشعبة؛ ولهذا ذكرها بالجمع، بينما أفرد طريق الحق في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
قال ابن القيم[1]: "وذكر الصراط المستقيم مفردًا معرَّفًا تعريفين: تعريفًا باللام، وتعريفًا بالإضافة، وذلك يفيد تَعَيُّنَه واختصاصه، وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال، فإنه سبحانه يجمعها ويفردها؛ كقوله: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153] ".
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، وقال: ((هذه سبيل الله))، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، وقال: ((هذه سبل، على كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]))[2].
49 - أن الصراط تارة يضاف إلى سالكيه، كما في قوله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، وتارة يضاف إلى الله تعالى الذي نصَبَه وشرعه ووضعه لعباده، كما في قوله تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الشورى: 53]، وقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ﴾ [الأنعام: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 153].
50 - وجوب الاعتراف بالنعمة لمُولِيها ومُسْديها؛ لقوله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾، فالمنعِم الحقُّ بجميع النعم هو الله جل وعلا، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34، والنحل: 18].
51 - في إثبات حمده بصفات الكمال، وإثبات ربوبيته وملكه، وكونه مستعانًا به، مسؤولًا أن يهديَ عباده الصراط المستقيم، وكونه منعمًا - في ذلك كلِّه دلالةٌ على أنه تعالى فاعل مختار بقدرته ومشيئته، وردٌّ على القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا[3].
52 - استدل الشنقيطي[4] بقوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7] على صحة إمامة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه قال: "لأنه داخل في الذين أمَرَنا الله في هذه السورة بأن نسأل أن يهديَنا صراطَهم. قال: فدلَّ على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصِّدِّيقين، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]. قال: فهو رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وإمامتُه حق".
53 - إثبات كمال الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم؛ لقوله تعالى بعد أن ذكر هذا الصراط: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]؛ أي غير صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.
لأن الصفات السلبية يؤتى بها لإثبات كمال ضدِّها؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255] لإثبات كمال قيوميته، وكقوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، ونحو ذلك.
54 - ينبغي للعبد بعد أن يسأل الله تعالى أن يهديَه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم فحققوا التوحيد: أن يسأله أيضًا أن يَجْنُبَه صراطَ المغضوب عليهم ممن عرَفوا الحق ولم يعملوا به، من اليهود وغيرهم، وصراط الضالين، الذين عبدوا الله على جهل وضلال، من النصارى وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، وهذا هو أفضل دعاء دعا به العبدُ ربَّه وأَوجَبُه وأنفَعُه[5].
55 - إثبات صفة الغضب لله - كما يليق بجلاله وعظمته، وهي من الصفات الفعلية المتعلِّقة بالمشيئة، لكن لا يُشتَقُّ منها اسمٌ على الإطلاق؛ فلا يقال: الغضبان، أو الغاضب، قال تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ﴾ [الفتح: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ﴾ [النساء: 93].
56 - ينبغي للعبد أن يسلك من الطرق أحسنها وأصلحها وأقومها، وأن يختار لنفسه القدوة الحسنة، والأسوة الصالحة، بسلوك طريق النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يحذر من طرق الكفر والبغي والضلال، التي هي مسالك اليهود والنصارى وغيرهم.
57 - أن من أخص صفات اليهود الغضب؛ لأنهم عرَفوا الحق وتركوه، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾ [المائدة: 60].
وأن من أخص أوصاف النصارى الضلال؛ لأنهم عبدوا الله على جهل وضلال، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 77].
ولهذا وصف الله في سورة الفاتحة كلًّا من اليهود والنصارى بأخص أوصافهم، فقال: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني اليهود، ﴿ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ يعني النصارى، وإلا فكلٌّ من الطائفتين مغضوب عليه وضالٌّ.
58 - أن كل من سلك مسلك أحد الطائفتين شَمِلَه وصفُ تلك الطائفة، كما قال سفيان بن عيينة: "من فسد من علمائنا ففيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسد من عُبَّادِنا ففيه شبه من النصارى"، وفي الحديث: ((مَن تَشبَّهَ بقوم فهو منهم))[6].
فيجب الحذر من التشبُّهِ بهم؛ إذ ليس بين الله وبين أحد من الخلق نَسَبٌ، بل إن الآية توجب سؤال الله السلامة من جميع مسالك الكفر والضلال، والحذر من ذلك.
59 - دل قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6] وما بعده على أن الناس ينقسمون بحسب معرفة الحق والعمل به إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ أنعَمَ الله عليهم بمعرفة الحق والعمل به، وقسمان مخذولان، أحدهما: من عرَفوا الحق وتركوه كفرًا وعنادًا، وهم اليهود ومن سلك مسلكهم؛ ولهذا استحقوا غضب الله تعالى. والقسم الثاني: من ضلُّوا عن الحق وجهلوه، مِن النصارى ومن سلك مسلكهم؛ ولهذا وصفهم الله بالضلال.
60 - في إسناد النعمة إلى الله تعالى، وإضافتها إليه في قوله: ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ إشارة إلى تفرُّدِه بالإنعام، وتكريم المُنْعَم عليه. وفي حذف فاعل الغضب في قوله: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ إشارة إلى أن الغضب عليهم لا يختص به تعالى، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله يغضبون لغضبه، كما أن في ذلك إشعارًا بإهانة المغضوب عليهم وتحقيرهم.
كما أن في إسناد النعمة إلى الله تعالى، وحذف فاعل الغضب وإسناد الضلال إلى من قام به في قوله: ﴿ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾: تعليمًا لحسن الأدب مع الله بإسناد الخير والنعم إليه، وحذف الفاعل فيما يقابل ذلك أو إسناده إلى من قام به، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((والخير كله بيديك، والشر ليس إليك))[7].
أي إن الشر في مفعولات الله، لا في فعله، فإن فعله كلَّه خير وحكمة، وكما قال إبراهيم الخليل عليه السلام، فيما حكى الله عنه: ﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 79، 80][8].
61 - بلوغ القرآن غاية الإيجاز مع الفصاحة والبيان؛ فإن الله وصف كلًّا من الطوائف الثلاث بوصف يستلزم الجزاء وسببه بأوجز لفظ في قوله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7].
قال ابن القيم[9]: "وتأمل سرًّا بديعًا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاث بأوجز لفظ وأخصره؛ فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح، وهي الهدى ودين الحق، ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء، فهذا تمام النعمة، ولفظ ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ يتضمن الأمرين.
وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضًا أمرين: الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان، والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه، فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال، فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم، وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم، وعقابه لهم، فإن من ضلَّ استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه".
62 - الترغيب في سلوك سبيل المنعم عليهم والمؤمنين، والترهيب من سلوك طريق المغضوب عليهم والضالين؛ يؤخذ هذا من المقابلة بين الهداية والنعمة والغضب والضلال.
63 - دلَّت السورة على إثبات النبوات، ووجوب الإيمان بالكتب والرسل، والرد على منكِري النبوات، وذلك في مواضع كثيرة، منها ما يلي:
أولًا: من قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ [الفاتحة: 2]؛ إذ لا سبيل إلى معرفة حمده، ووصفه بصفاته إلا عن طريق كتبه ورسله، كما أن في إثبات حمده التام ووصفه بصفات الكمال ما يقتضي كمال حكمته، وأن لا يخلق الخلق عبثًا، ولا يتركهم سدىً، لا يُؤمَرون ولا يُنهَوْن؛ ولهذا نزَّه تعالى نفسه عن هذا في مواضع من كتابه، وبيَّن أن من أنكر الرسالة والنبوة فإنه ما قَدَرَهُ حقَّ قدره، قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾ [الرعد: 19][10].
قال ابن القيم[11]: "فمن أعطى الحمد حقه علمًا ومعرفة وبصيرة، استنبط منه: أشهد أن محمدًا رسول الله، كما يستنبط منه أشهد أن لا إله إلا الله، وعلم قطعًا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد كتعطيل الصفات، وكإثبات الشركاء والأنداد".
ثانيًا: من قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ ﴾ ومعناه: المألوه المعبود، ولا سبيل إلى معرفة كيفية عبادته، وما يعبد به إلا من طريق الرسل والنبوات.
ثالثًا: من قوله تعالى: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]؛ إذ الرب يتعهد مربوبه بالتربية والإصلاح، ومقتضى ذلك إرسالُ الرسل، وإنزال الكتب؛ لدعوة الناس إلى الخير، وتحذيرهم من الشر في دينهم ودنياهم.
قال ابن القيم[12]: "فلا يليق به أن يترك عباده سدىً هملًا، لا يعرِّفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيهما، فهذا هضم للربوبية، ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به، وما قدَرَه حق قدره من نسبه إليه".
رابعًا: من قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]؛ فإن مقتضى رحمته ألا يترك العباد بلا رسل تبلغهم وحي الله، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
قال ابن القيم[13]: "فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم، فمن أعطى اسم (الرحمن) حقَّه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب أعظم من تضمُّنِه علمَ إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحَبِّ، فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدرَكوا من هذا الاسم حظَّ البهائم والدواب، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك".
خامسًا: من قوله: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4] فإن من تمام ملكه أن يكون له رسل وكتب يبُثُّها في أقطار مملكته لتبليغ أوامره ونواهيه.
سادسًا: من قوله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ إذ كيف يحاسب ويجازي الخلق إلا بعد إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل، كما قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
قال ابن القيم[14]: "فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات، وما كان الله لِيُعذِّبَ أحدًا قبل إقامة الحجة عليه، والحجة إنما قامت برسله وكتبه، وبهم استحق الثواب والعقاب، وبهم قام سوق يوم الدين، وسِيقَ الأبرار إلى النعيم، والفجارُ إلى الجحيم".
سابعًا: من قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾؛ لأن الله لم يتعبد خلقه بالجهل، ولا طريق لمعرفة كيفية عبادته وبماذا يُعبَد إلا بواسطة الرسل والكتب.
ثامنًا: من قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾؛ فإن من أقسام الهداية هداية البيان والدلالة والإرشاد، ولا يكون ذلك إلا من طريق الرسل والكتب المنزلة عليهم من عند الله تعالى، ولا يمكن معرفة الطريق المستقيم الموصِّل إلى الله، والمؤدي إلى السعادة في الدارين إلا من طريق الرسل والكتب.
تاسعًا: من قوله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ وهم النبيون ومن ذكر الله معهم في قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، فإن معرفة المنعم عليهم ومعرفة طريقهم، ومعرفة النعمة التي من أجلها استحَقُّوا أن يُذكَروا بها على سبيل التشريف والتعظيم، كلُّ ذلك لا يمكن معرفته إلا من طريق الرسل والكتب.
عاشرًا: من قوله تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]؛ إذ لا يمكن معرفة طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين ليجتنبهما العبد إلا من طريق الرسل والكتب.
الحادي عشر: من قوله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]؛ لأن انقسام الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة إنما حصل بسبب إرسال الرسل، فمن عرف الحق الذي جاؤوا به واتبعه، فهو من أهل النعمة، ومن عرفه وعانده، فهو من أهل الغضب، ومن جهل الحق، فهو من أهل الضلال.
ويتفرع عن هذا أنه إذا كانت السورة متضمنة إثبات الرسالات والنبوات، اقتضى ذلك إثبات صفة التكلم والتكليم له جل وعلا؛ قال ابن القيم[15]: "فإن حقيقة الرسالة تبليغ كلام المرسِل، فإن لم يكن ثَمَّ كلامٌ فماذا يبلِّغ الرسلُ؟ بل كيف يعقل كونه رسولًا؟ ولهذا قال غير واحد من السلف: من أنكَرَ أن يكون الله متكلمًا، أو أن يكون القرآن كلامه، فقد أنكَرَ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ورسالة جميع الرسل التي حقيقتُها تبليغ كلام الله تبارك وتعالى".
64 - تضمَّنت السورة الدلالة على سَعة علم الله عز وجل وخبرته، وتعلق علمه بالجزئيات، والرد على من أنكر ذلك من وجوه؛ لأن كونه محمودًا موصوفًا بصفات الكمال يقتضي أن يعلم أحوال العالم وتفاصيل جزئياته، وكونه إلهًا معبودًا يقتضي أن يعلم من يعبده ممن يعبد سواه، وكونه ربًّا للعالمين يقتضي أن يكون عالمًا بتفاصيل مخلوقاته مدبِّرًا لها، وكونه رحمانًا رحيمًا يقتضي أن يعلم أحوال المرحومين، وكونه مالكًا ليوم الدين يقتضي أن يعرف أحوال مملكته ورعيته ليجازي كلًّا بعمله، كما أن كونه مستعانًا به، ومسؤولًا الهداية، وهاديًا ومنعمًا على من أطاعه، ويغضب على من عصاه، كلُّ ذلك يدل على تعلق علمه بالجزئيات وشموله لها[16].
65 - اشتمل قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6] وما بعده إلى آخر السورة على الرد على جميع طوائف الكفر والضلال، وذلك على سبيل الإجمال؛ لأن الحق في معرفة ما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه، وما عداه من المسالك والسبل الملتوية والمعوجة مردودةٌ باطلة.
وقد عقد ابن القيم[17]، فصلًا في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المُبْطِلين من أهل المِلَلِ والنِّحَل، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمَّة. قال: وهذا يُعلَم بطريقين مجمل ومفصلٌ.
وبعد أن ذكر رحمه الله ما فيها من ردٍّ على جميع المبطلين بطريق الإجمال، بيَّن اشتمالها على الردِّ على جميع المبطلين بطريق التفصيل، فذكر الردَّ منها على الملاحدة، وإبطال قولهم وبيان ضلالهم، والرد على المجوس والقدَريَّة، وعلى الجهمية، وأهل الإشراك في ربوبيته وإلهيته، وعلى الجهمية معطِّلة الصفات، وعلى الجبرية، وعلى القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة، وإثبات أن الله فاعل مختار، والرد على منكري تعلُّق علمه بالجزئيات، ومنكري النبوات، وإثبات صفة التكلم لله عز وجل، والرد على من قال بقدم العالم، وكل هذا سبقت الإشارة إليه.
وختم ابن القيم هذا الفصل في بيان تضمُّنها للرد على الرافضة، فقال: "وذلك من قوله: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6] إلى آخرها. قال: ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: "منعم عليهم"، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرَفوا الحق واتبَعوه، و"مغضوب عليهم" وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه، و"ضالون" وهم الذين جهلوه فأخطؤوه، فكل من كان أعرَفَ للحق وأتْبَعَ له، كان أولى بالصراط المستقيم، ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض؛ فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم - جهلوا الحق وعرَفَه الروافض، أو رفضوه وتمسَّكَ به الروافض.
ثم إنَّا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما؛ فرأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الكفر وقلَبوها بلاد إسلام، وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى، فآثارهم تدل على أنهم أهل الصراط المستقيم، ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان، فإنه قط ما قام للمسلمين عدوٌّ من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام، وكم جرُّوا على الإسلام وأهله من بليَّة... ولهذا فسَّر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، وهو كما فسَّروه، فإنه صراطهم الذي كانوا عليه، وهو عين صراط نبيِّهم... وأشد الأمة مخالفة له الرافضة... فقد تبيَّن أن الصراط المستقيم صراط أصحابه وأتباعه، وطريق أهل الغضب والضلال طريق الرافضة، وبهذه الطريقة - بعينها - يُرَدُّ على الخوارج؛ فإن معاداتهم الصحابة معروفة".
66 - تضمنت السورة شفاء القلوب، كما تضمنت شفاء الأبدان، قال ابن القيم[18]: "فأما اشتمالها على شفاء القلوب، فإنها اشتملت عليه أتمَّ اشتمال فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان، وهما الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرَضانِ هما ملاك أمراض القلوب جميعها.
فهداية الصراط المستقيم تتضمَّن الشفاء من مرض الضلال؛ ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأَوْجَبَه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة؛ لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة، ولا يقوم غيرُ هذا السؤال مقامَه. والتحقق بـ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ علمًا ومعرفة وعملًا وحالًا يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد... إلى أن قال: ثم إن القلب يعرض له مرَضانِ عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد، وهما الرِّياء والكِبر، فدواء الرياء بـ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، ودواء الكبر بـ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، وكثيرًا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله روحه - يقول: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ تدفع الرياء، ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ تدفع الكبرياء"، فإذا عوفي من مرض الرياء بـ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، ومرضِ الكبر والعُجب بـ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، ومن مرض الضلال والجهل بـ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾؛ عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمَّت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد الذين عرَفوا الحق وعدلوا عنه، والضالين وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحُقَّ لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يُستشفى بها مِن كل مرض؛ ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء، الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى".
ثم ذكر الدليل من السُّنة على شفائها للأبدان، وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة اللديغ، وقد سبق ذكره في أسماء الفاتحة، كما استشهد بقواعد الطب وما دلت عليه التجرِبة[19].
[1] في "مدارج السالكين" (1/37 -38).
[2] رواه أحمد (1/435، 465)، وابن حبان (6، 7)، والحاكم (2/239، 318)، وصححه ووافقه الذهبي. وفيه عاصم بن بهدلة متكلَّم في حفظه. وللحديث شاهد من حديث جابر عند أحمد (3/397)، وابن ماجه - في المقدمة (11) وصححه الألباني.
[3] انظر: "مدارج السالكين" (1/92).
[4] في "أضواء البيان" (1/42 -43).
[5] انظر: "مجموع الفتاوى" (17/132).
[6] أخرجه أبو داود في اللباس - باب في لبس الشهرة (4031) من حديث ابن عمر، وكذا أحمد (2/5)، وصححه الألباني.
[7] أخرجه مسلم في الصلاة (771)، وأبو داود في الصلاة (760، 761)، والنسائي في الافتتاح (862)، والترمذي في الصلاة (266) - من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[8] انظر: "جامع البيان" (1/195، 197)، "مدارج السالكين" (1/34 -36).
[9] في "مدارج السالكين" (1/36 -37).
[10] انظر: "مدارج السالكين" (1/30 -34، 94 -96).
[11] في "مدارج السالكين" (1/94).
[12] في "مدارج السالكين" (1/30).
[13] في "مدارج السالكين" (1/31).
[14] في "مدارج السالكين" (1/31).
[15] في "مدارج السالكين" (1/96).
[16] انظر: "مدارج السالكين" (1/93 -94).
[17] انظر: "مدارج السالكين" (1/85 -98)، وانظر: "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (4/1222 -1225).
[18] في "مدارج السالكين" (1/79 -82).
[19] أكثرت من النقل عن كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، وأطلت في ذلك؛ لأني لم أجد من تكلَّم عن هذه السورة بمثل كلامه رحمه الله، وأشفقت أن أختصر كلامه، فتجيء عبارتي قاصرة عن الوفاء بمضمون كلامه، الذي هو في غاية الدقة والتحقيق، وحسبي أني أحلت إليه.
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

وليد
31-03-2021, 01:18 AM
جزاك الله خيرا
وبارك بك على طرحك الطيب
ولا حرمك الأجر.

نقطه
02-04-2021, 06:41 PM
https://files2.up4.cc/2020-12/160889088182481.gif

عسل
03-04-2021, 12:08 AM
إبداع في الطرح وروعة في الإنتقاء
دمت رائع الطرح وافر العطاء
أكاليل الزهر أنثرها في صفحتك
مع خالص تحياتى وفائق أحترامي
:100 (113)::100 (113):

أمير المحبه
06-04-2021, 11:48 PM
جزاك الله خيرا
يعطيك العافيه يارب
اناار الله قلبكك بالايمــــــــان
وجعل ماقدمت في ميزان حسناتكـ
لكـ شكري وتقديري

ملاذ الروح
09-04-2021, 09:57 AM
يعطيك العافيه على الطرح
المخملي والموضوع المثمر انتظر
القادم من طروحاتك بكل شوق ..!
تحياتي القلبيه لك

ملكة الحنان
10-04-2021, 11:00 AM
http://m.3bir.net/files/21471.gif

عواد الهران
11-04-2021, 10:57 AM
بارك الله فيك .

والله يعطيك العافيه...

ماعرض يستحق المتابعه.

ولك الشكر والامتنان...

راعي المود
22-04-2021, 09:04 AM
جزآك الله جنةٍ عَرضها آلسَموآت وَ الأرض
بآرك الله فيك على الطَرح القيم
في ميزآن حسناتك ان شاء الله ,,
آسأل الله أن يَرزقـك فسيح آلجنات !!
وجَعل مااقدمت في مَيزانْ حسَناتك
وعَمر آلله قلبك بآآآلايمَآآنْ
علىَ طرحَك آالمحمَل بنفحآتٍ إيمآنيهِ
دمت بـِ طآعَة الله

غرام الشوق
02-05-2021, 02:36 AM
جزاك الله كل خير
وبارك الله فيك بموازين حسناتك
ويعطيك العافيه ع الموضوع
بنتظارجديدك الراقي بكل شوق
تحياتي وعطر وردي

عاشق الغاليه
23-02-2023, 03:22 AM
دائماً لمساتك في القمة بها الابداع
والتميز الراقي تسحرعيون من يدخلها
فلقد استمتع ناظري هنا وعجزت
عن التعبير فماذا اقول لك غير أسعد
الله قلبك وفي طرحك الراقي
اراح الله قلبك و اسعدك

ندووشاا
03-06-2023, 07:52 PM
الله يجزاك كل خير على مجهودك...
ويجعل الأجر الاوفر بميزان حسناتك...
ننتظر جديدك...